أنا لن أنس أبدا تلك اللحظة التي أخبرني فيها الطبيب أني مصابة بداء السرطان. لحظة دامت بضع ثواني لكنها كانت ثواني فارقة. ثواني فرقت بين مرحلتين من حياتي: مرحلة كنت أظن فيها أني أنتمي إلىعالم الأصحاء، و مرحلة أدركت فيها أني أصبحت أنتمي إلىعالم مرضى السرطان. نعم، أصبحت مريضة بالسرطان، بل و مهددة بأن ينتشر الداء في جسدي، بل و أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الموت !
منذ تلك اللحظة، أصبحت أدرك قيمة ما أملكه... بل و أصبحت أدرك قيمة اللحظة! أصبحت أدرك قيمة البصر و قد أفقد بصري بلحظة. أصبحت أدرك قيمة السمع و قد أفقد سمعي بلحظة. أصبحت أدرك قيمة العائلة و قد أفقد أحد أفراد عائلتي بلحظة. أصبحت أدلاك قيمة العمل و قد أفقد القدرة على العمل بلحظة... هي نعم كثيرة وهبني الله إياها و قد أصبحت أدرك أني قد أفقد إحدى هذه النعم بلحظة. و صدق من قال:"اللهم عرفنا نعمك بدوامها لا بزوالها".
قبل مرضي بالسرطان، كان إذا سألني أحدهم عن أهم و أغلى اللحظات في حياتي، كنت أبحث عن تلك اللحظات الفارقة بين مرحلتين من حياتي، و هي بالمناسبة تعد على رؤوس الأصابع!
أما الآن، فأنا أعتبر كل لحظة ما زلت فيها على قيد الحياة هي لحظة فارقة و مهمة و غالية جدا...
كل لحظة هي غالية جدا لأنها أول لحظة في ما تبقى من حياتي.
كل لحظة هي غالية جدا لأنها هدية من الله سبحانه و تعالى لمزيد من العبادة و مزيد من العمل الصالح و مزيد من الخير و العطاء و الزرع. أليست الدنيا هي مزرعة الآخرة؟!
كل لحظة هي غالية جدا لأنها فرصة عظيمة للتوبة من الذنوب و المعاصي و لجني جبال من الحسنات و محو جبال من السيئات.
كل لحظة هي غالية جدا لأنها تكفي لكي أقول كلمة تدخلني الجنة أو تهوي بي في النار سبعين خريفا. ألم يقل الرسول صلى الله عليه و سلم: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار".
كل لحظة هي غالية جدا لأنها تكفي لأقوم بعمل يدخلني الجنة أو النار. و هاهو الرسول صلى الله عليه و سلم يقول: "بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره، فشكر الله له فغفر له". و من غفر الله له أدخله الجنة!
كل لحظة هي غالية جدا لأن الله سبحانه و تعالى يراني في هذه اللحظة. و السؤال هو: ترى على أي حال أريد أن يراني ربي؟ هل أنا منشغلة به عز و جل أم منشغلة عنه؟ و لعل أروع ما قرأت في هذا المجال هي قصة ذلك الراعي الذي سأله ابن عمر أن يبيعه شاة فأجابه: "إنها ليست لي بغنم،إنها غنم سيدي". فقال له ابن عمر: "فما عسى سيدك فاعلا إذا فقدها، فقلت: أكلها الذئب". فولى الراعي عنه و هو رافع أصبعه إلى السماء و هو يقول: "أين الله"...
نعم، أين الله في كل كلمة و كل نظرة و كل خطوة و كل عمل ؟ أين الله في كل حركة و كل سكنة و كل عطاء و كل منع و كل وصل و كل رضا و كل غضب ؟
كل لحظة هي غالية جدا لأن الله سيحاسبني عليها يوم القيامة!
ترى من منا يضمن أن يعيش لحظة واحدة؟ بالطبع لا أحد!
نحن في الحياة نستطيع فعل الكثير. و لكن أمام الموت، نحن لا نستطيع فعل شيئ!
إذا فلنستغل كل لحظة في عمل يقربنا من الله عز و جل... فلنستغل كل لحظة في إعمار الأرض...فلنستغل كل لحظة لكي تكون قبورنا روضة من رياض الجنة و ليس حفرة من حفر النار... فلنستغل كل لحظة في الإستعداد ليوم الرحيل. بيتنا الحقيقي هو الجنة و نحن في هذه الدنيا يجب أن نكون كعابري سبيل! أليست هي وصية الرسول صلى الله عليه و سلم لابن عمر: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل". و كان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء. و خذ من صحتك لمرضك، و من حياتك لموتك". نعم،فلنستغل كل لحظة ما دام في الجسد روح تسري و قلب ينبض و عقل يفكر. نعم، فلنستغل كل لحظة و لنبدأ من الآن و ليس غدا لأن غدا قد لا يأتي أبدا!!
أضف تعليقك
اهداء
الجمعة 21 أكتوبر 2011 - 18:37
إلى أمي الملاك التي لم أحتمل رؤية دموعها وأنا أخبرها أني مصابة بدا...